السبت، 8 أكتوبر 2011

نيّال من تبقى له كمشة تراب في "بعبدا"



عاصمة جبل لبنان، رئة بيروت الخضراء، مقرّ القصر الرئاسيّ، حاضنة وزارة الدفاع والمحميّة بها، المدروزة قصورًا وسفارات، والناضحة تاريخًا وحكايات، بلدة بعبدا، من يتآمر عليها؟
منذ أعوام قليلة، بدأت بعبدا تشهد تغيّرات تكاد تكون جذريّة تطول البشر والحجر، فحركة العمران العشوائيّة فيها قضت على غاباتها وحوّلت تربتها متاريس من الباطون المسلّح، ومياهها الجوفيّة غارت في العيون والينابيع لتتدفّق في أحواض السباحة الفخمة الخاصّة، وأبناؤها باتوا عاجزين عن شراء شقق فيها فيغادرونها ولا يعودون إلّا إلى مدافنها.وكأنّه لا يكفيها هذا، حتّى صارت كرة تتقاذفها الأرجل من ملعب البلديّة إلى ملعب المحافظة إلى ملعب الوزارات المعنيّة، والجميع ينفض يده من البشاعة المستشرية في مداخلها وشوارعها وطرقها غير المعبّدة ولوحاتها الإعلانيّة، ومن الروائح الكريهة ومجارير الصرف الصحيّ التي تغسل وجه الأرض على مدار الساعة، طاردة عطر خمائل الياسمين التي كانت تزيّن البيوت العتيقة، مفسحة الجوّ واسعًا للبعوض والذباب؛ والجميع يتجاهل النفايات الموزّعة أكياسًا وأكوامًا بين نباتاتها البريّة وما تبقّى من أشجارها، وغياب الحراسة من شوارعها، وحفر الشوارع التي صارت في عمق الهوّة التي تفصل حاضر بعبدا عن تاريخها المجيد.
ولكي نعلم مدى التراخي في تصريف أعمال هذه البلدة، يكفي أن نتذكّر كيف أنّ جسر بعبدا الذي هدمته الطائرات الإسرائيليّة هو آخر ما رمّم من آثار تلك الحرب، وأنّ مبنى بلديّتها لا يزال أنقاضًا مهملة منذ التفجير الذي أودى بحياة الشهيد العميد الركن فرنسوا الحاج.
فمن ذا الذي يريد أن يغيّر هويّة بعبدا ويجعلها مجرّد مدينة إداريّة كبيرة تضيق طرقها بأرتال السيّارات التي تقصد هذه السفارة أو تلك الوزارة أو تلك الثكنة العسكريّة؟ ومن يريد أن يحوّلها موقفًا مجّانيًّا للآليّات والشاحنات وسيّارات الموظّفين في الدوائر الرسميّة؟ وعلى من تقع مسؤوليّة إنقاذها؟نوّاب المنطقة، وهم من أبنائها أو ساكنيها، محصّنون داخل قصورهم، لا يعنيهم أمر البلدة والمصير الذي ينتظرها، وبلديّتها غارقة في المشكلات والتجاذبات، عاجزة عن إيجاد الحلول التي ترضي الجميع وتراعي القانون في الوقت نفسه.
أمّا أبناء البلدة فمشغولون تارة بالانتخابات البلديّة وطورًا بالنيابيّة، ومتى وجدوا بعض الوقت التفتوا صوب كنيسة البلدة ليسألوا فجأة عن أحوالها في مرور مئة عام على بنائها. وهكذا يبقى مصير البلدة الأبعد ممّا تراه العين في أيدي مجموعة غير متآلفة وغير منسجمة من السكّان الذين ضاقت بهم المدينة وضواحيها فاكتسحوا أخضر البلدة وحوّلوه حجارة صمّاء. ولن يمضي وقت طويل حتّى يستيقظ أهالي البلدة على أصوات لا تشبه أصواتهم، وتقاليد لا تشبه تقاليدهم، وحين ينظرون في وجوه بعضهم سيبكون كالنساء ملكًا لم يحسنوا الدفاع عنه كالرجال. ولعلّ خاتمة رواية "يمنى" لسمير عطاالله كانت نذيراً بأنّ بعبدا ستكون الشاهدة على بداية النهاية، ففي نهاية الرواية تنظر "يمنى" من قصرها في "اليرزة" وهي ناحية جميلة من بعبدا، إلى الطائرات الإسرائيليّة وهي تقصف مطار بيروت العام 1968، وتقول: انتهى استقلال لبنان، ثمّ تسقط ميتة. لا اليرزة بقيت كما هي، ولا لبنان بقي كما هو، ولعلّ بعبدا، برمزيّتها وتاريخها والتغيّرات التي نخرت مفاصلها، هي المرصد الذي كان يجب على الجميع أن يراقبوا التغيرات منه وفيه. ولا يغيب عن البال، ونحن عشيّة استحقاق انتخابيّ مصيريّ، أن نشير إلى أنّ هذه البلدة هي بوابة الجبل اللبنانيّ من جهة الغرب، ومتى فتحت على مصراعيها كما هو حاصل حاليًّا، اكتُسح الجبل في غفلة عن أبنائه، وفرقة الكشّافة التي أُطلقت في مثل هذا الشهر من العام الماضي صارت تعرف جيّدًا عدد الخطوات القليلة التي تفصل بين غرب بعبدا وشرقها.
"النهار" - أيّار 2009

ليست هناك تعليقات: