في أكثر الأيّام التي أنوي فيها البدء بنزهتي المعتادة أتردّد، لأنّ الفكرة الأولى التي تخطر على بالي هي: سيمضي النهار ولن أفعل شيئًا آخر. فأنا متى بدأت في المشي أعرف أنّ النزهة ستطول وتطول إلى حدّ أنّني أخشى أن أتأخر عن إنجاز أمور أخرى مطلوبة منّي.
ولكنّي على عكس أكثر الذين يمارسون رياضة المشي لا أفعل ذلك طمعًا بنعيم النحافة والليونة والرشاقة ولا خوفًا من جحيم ترقّق العظام وترهّل العضلات وكآبة النفس، بل رغبة في التقاط مشاهد لا بدّ أن تختلف وإن مشيت على الطريق نفسها، فكيف إذا دخلت في دروب وخرجت من أزّقة. فكما أنّ من غير الممكن أن نشرب من مياه النهر مرّتين فكذلك لا يمكن أن نرى المشهد نفسه مرّتين: لتغيّر في المشهد نفسه أوّلاً ولو في تفصيل واحد أو لتغيّر في مزاجي أو لتطوّر في أفكاري ولأنّ ما كنت أعرفه البارحة أضيفت إليه أمور جديدة اليوم.
ما من طرقات عندنا مخصّصة للمشي، ولكن بلدتي (بعبدا) لا تزال تحتفظ ببضع تجمّعات للأشجار يحلو للمحافظين على البيئة أن يسمّوها غابات، ولذلك أسرق في غفلة عن منشار الزمن وحفّارة الإعمار ساعات أتنقّل فيها بين طرقات البلدة الرئيسيّة والفرعيّة، هذا إن لم أرغب في التوجّه إلى الجبال أو القرى والبلدات البعيدة عن العاصمة بيروت. والمشي على الطرقات غير المخصّصة للمشي له ميزاته إذ لا يمكن ألاّ ألتقي بعشرات الناس سواي من المشاة أو السائقين الذين سيتوقفونني للتحيّة أو للدعوة إلى فنجان قهوة أو للسؤال عن الصحّة والعمل والأهل. فأنا متى اخترت المشي في البلدة عليّ القبول بشروطها الاجتماعيّة فأعود إلى المنزل محمّلة بتحيّات للأهل ووعود قطعتها بزيارة فلانة من الجارات أو فلانة من القريبات العجوزات.
ولكنّ الطبيعة شيء آخر، الأشجار وتغيّرات الفصول على أوراقها وأغصانها وأزهارها وثمارها، الهرر النائمة في كسل أمام المنازل الغارقة في الشمس والسكينة، نواطير الفيلاّت والقصور والبنايات الفخمة يتبادلون الأحاديث مستغلّين غياب أصحاب البيوت، حبال الغسيل على الشرفات والسطوح تشي بمستويات أصحابها الاجتماعيّة، مستوعبات النفايات التي عبثت الهررة والكلاب الشاردة بمحتوياتها ونشرتها على الطرقات ففضحت أسرار من تخلّص منها، أعقاب السجائر المرميّة من السيّارات، النباتات العنيدة التي شقّت طريقها إلى النور من فتحات ضيّقة في الحيطان والسلالم الحجريّة العتيقة، بقع خضراء من العشب البريّ اشرأبّت من بين أوراقها زهرات صغيرة ربيعيّة في فصل الشتاء، فأفكّر في قطافها ثمّ أتراجع وأقول في نفسي: إلامَ سأنظر غدًا إن مررت من هنا ولم يكن في المكان زهور؟
في طريق العودة من نزهتي التي غالبًا ما تحتلّ ساعات ما قبل الظهر، أفكّر في أنّ العالم صغير إلى درجة أنِ اختصرته أمامي بقعة من العشب والأزهار، وكبير بحيث أنّ البقعة الصغيرة نفسها قادرة على أن تفتح أمام عينيّ آفاقًا لا حدود لها.
"فأعود ولا شيء معي سوى كلمات" تنتظر أن أكتبها.
ولكنّي على عكس أكثر الذين يمارسون رياضة المشي لا أفعل ذلك طمعًا بنعيم النحافة والليونة والرشاقة ولا خوفًا من جحيم ترقّق العظام وترهّل العضلات وكآبة النفس، بل رغبة في التقاط مشاهد لا بدّ أن تختلف وإن مشيت على الطريق نفسها، فكيف إذا دخلت في دروب وخرجت من أزّقة. فكما أنّ من غير الممكن أن نشرب من مياه النهر مرّتين فكذلك لا يمكن أن نرى المشهد نفسه مرّتين: لتغيّر في المشهد نفسه أوّلاً ولو في تفصيل واحد أو لتغيّر في مزاجي أو لتطوّر في أفكاري ولأنّ ما كنت أعرفه البارحة أضيفت إليه أمور جديدة اليوم.
ما من طرقات عندنا مخصّصة للمشي، ولكن بلدتي (بعبدا) لا تزال تحتفظ ببضع تجمّعات للأشجار يحلو للمحافظين على البيئة أن يسمّوها غابات، ولذلك أسرق في غفلة عن منشار الزمن وحفّارة الإعمار ساعات أتنقّل فيها بين طرقات البلدة الرئيسيّة والفرعيّة، هذا إن لم أرغب في التوجّه إلى الجبال أو القرى والبلدات البعيدة عن العاصمة بيروت. والمشي على الطرقات غير المخصّصة للمشي له ميزاته إذ لا يمكن ألاّ ألتقي بعشرات الناس سواي من المشاة أو السائقين الذين سيتوقفونني للتحيّة أو للدعوة إلى فنجان قهوة أو للسؤال عن الصحّة والعمل والأهل. فأنا متى اخترت المشي في البلدة عليّ القبول بشروطها الاجتماعيّة فأعود إلى المنزل محمّلة بتحيّات للأهل ووعود قطعتها بزيارة فلانة من الجارات أو فلانة من القريبات العجوزات.
ولكنّ الطبيعة شيء آخر، الأشجار وتغيّرات الفصول على أوراقها وأغصانها وأزهارها وثمارها، الهرر النائمة في كسل أمام المنازل الغارقة في الشمس والسكينة، نواطير الفيلاّت والقصور والبنايات الفخمة يتبادلون الأحاديث مستغلّين غياب أصحاب البيوت، حبال الغسيل على الشرفات والسطوح تشي بمستويات أصحابها الاجتماعيّة، مستوعبات النفايات التي عبثت الهررة والكلاب الشاردة بمحتوياتها ونشرتها على الطرقات ففضحت أسرار من تخلّص منها، أعقاب السجائر المرميّة من السيّارات، النباتات العنيدة التي شقّت طريقها إلى النور من فتحات ضيّقة في الحيطان والسلالم الحجريّة العتيقة، بقع خضراء من العشب البريّ اشرأبّت من بين أوراقها زهرات صغيرة ربيعيّة في فصل الشتاء، فأفكّر في قطافها ثمّ أتراجع وأقول في نفسي: إلامَ سأنظر غدًا إن مررت من هنا ولم يكن في المكان زهور؟
في طريق العودة من نزهتي التي غالبًا ما تحتلّ ساعات ما قبل الظهر، أفكّر في أنّ العالم صغير إلى درجة أنِ اختصرته أمامي بقعة من العشب والأزهار، وكبير بحيث أنّ البقعة الصغيرة نفسها قادرة على أن تفتح أمام عينيّ آفاقًا لا حدود لها.
"فأعود ولا شيء معي سوى كلمات" تنتظر أن أكتبها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق