لا أعرف إن كانت البلدة التي ولدت فيها لا تزال موجودة، لا أعرف إن وُجدت أصلاً. فالأمكنة ابنة الحكايات، ولعلّ حكاية قديمة أنجبت بلدتي التي أنجبتني. اسمها الريحانيّة، ولم يعد فيها من الريحان إلاّ شجرة يتيمة أمام باب بيتنا، تحيي العابرين على الطريق وتغريهم فيمدّون أيديهم ليقطفوا بعض الحبّات الصفراء الممتلئة فتتساقط الأخريات الكثيرات زخّات من العطر وكرات شمس تتدحرج على التراب القليل الباقي في بلدة تجتاحها الأبنية التي تنبت على جنبات الطرق حيث كان التين والزيتون والعنّاب.
يوم امتدّت الطريق السوداء فوق دروب التراب وتلوّت كالأفعى بين البيوت القليلة تهدّد أطفالها اللاعبين بأمان، هرب الأمان ورحلت العصافير واختفت أشجار الريحان وهاجر الذين كانوا أطفالاً، وصارت الريحانية مجرّد أرض مرتفعة الثمن تصلح للتجارة وتقضم أطرافَها الخضراء البلداتُ المحيطة بها: فتأخذ الفياضيّة من الشرق مستشفى السان شارل، وتأخذ الحازمية بساتينها الشماليّة، وتستعمر برازيليا التي أنشأها مغترب لبناني عاد من البرازيل جانبَها الغربيّ، وتكتسح اليرزة بطبقاتها الاجتماعيّة الراقية حقولَ زيتونها الغنيّة، ولا أعود أعرف أين أقيم. وحين قال لي سائق التاكسي الذي أقلّني ذات عشيّة: إذا كنت ذاهبة إلى بعبدا لا إلى الحازميّة زادت التسعيرة ألفي ليرة، فكّرت في أن أبيع بلدتي بألفين من الليرات، لولا أنّه تابع وقال لي: ضيعان هالضيعة أكلها العمار.
لو عاد الذين ماتوا منذ سنين لما اهتدوا إلى القرية الصغيرة التي كانت مصيفًا لأهل الحدث وارتفع فيها في العامين الأخيرين عشرون بناء من الحجم الهائل لن يعرف المقيمون فيها من الخليجيّين الأثرياء والمغتربين العابرين أيّ شيء عن تاريخها. إم عزيز المنتصبة القامة رغم أعوامها التسعين تمشي ويداها على خاصرتيها، الستّ شفيقة تبلّل كفّيها بالمياه وتربّت على أطراف شتلات الحبق الكبيرة لتنمو مستديرة كأنّها مرسومة رسمًا، العمّ إسكندر يتأبّط ذراع زوجته الستّ هيلين ويعودان معًا مريضًا ليرفّها عنه بأخبارهما الطريفة الذكيّة، الستّ نيني ممرّضة القرية تنقل وصفاتها عن زوجها الذي كان يعمل في الطبيّة ويسمع أحاديث الأطبّاء ويتعلّم منها، العمّ جريس بشرواله العربيّ وزوجته الستّ رشيدة يجلسان أمام بيتهما الذي اختفى ويستعدّان لاستقبال زائري العصر لشرب القهوة، إم كلود التي أتت من الشمال وصارت ابنة الحيّ، العمّ طانيوس الذي حضن السنديانة مودّعًا باكيًّا حين هاجر وهو يناهز الثمانين من عمره إلى أوستراليا حيث أولاده، وغيرهم وغيرهم من الوجوه التي لم تعرف غير الابتسامات تتحدّى بها الفقر لا العوز، وتستقبل بها الضيوف بلا خبث أو رياء، وتروي الأرض حنانًا ودفئًا.
اليوم، غارت عين الريحانيّة تحت هدير الحفر والبناء، وباع الأحفاد البيوت القديمة لتجّار الإعمار، وصارت أشجار الزيتون والتين والعنّاب وقودًا في مدفأة الذاكرة. كلّ ذلك لأنّ الريحانيّة ليس فيها مكان للموتى، ليس فيها مدافن. فأهل الريحانيّة الذين يعتبرون أنفسهم أبناء بعبدا لم ينقلوا مدافنهم الخاصّة إلى جانب الكنيسة التي بنوها منذ خمسين سنة، كأنّهم أرادوا أن يبقوا على انتمائهم إلى البلدة الكبيرة خصوصاً عند الغياب وفي مناسبات الحزن حين يحتاج الإنسان إلى من يحتضن خوفه أمام العبور والفناء. ولأن لا مدافن عندنا زالت هالة القدسيّة عن أرضنا التي لم تجد من يحمي تربتها وأشجارها وذكرياتها، فالموتى مدفونون بعيداً، وليس غير الموتى من يقدر على المواجهة لأنّهم لا يخافون.
هذا الصيف ستمتلئ الأبنية التي شيدت حديثًا بالغرباء الذين لا يعرفون أين يقيمون: هل هم في بعبدا أم الحازميّة أم برازيليا أم الفياضيّة، ولن يبقى من الريحانيّة إلاّ بضع كلمات تحاول أن تصف عطرًا يفوح من شجرة الريحان الوحيدة الباقية أمام بيتنا، ووجوهًا تبتسم للكاميرا في ألبومات عتيقة منسية في زوايا الخزانات، وعقد خرز أزرق تتباهى به مراهقة اكتشفته بين أغراض عتيقة لجدّتها ولم يجرؤ أحد على إخبارها بأنّه كان لـ"عيّوقة" البقرة التي غذّت أهل الحيّ بحليبها الصافي وحين ماتت بكاها الجميع كأنّها فرد من العائلة.
يوم امتدّت الطريق السوداء فوق دروب التراب وتلوّت كالأفعى بين البيوت القليلة تهدّد أطفالها اللاعبين بأمان، هرب الأمان ورحلت العصافير واختفت أشجار الريحان وهاجر الذين كانوا أطفالاً، وصارت الريحانية مجرّد أرض مرتفعة الثمن تصلح للتجارة وتقضم أطرافَها الخضراء البلداتُ المحيطة بها: فتأخذ الفياضيّة من الشرق مستشفى السان شارل، وتأخذ الحازمية بساتينها الشماليّة، وتستعمر برازيليا التي أنشأها مغترب لبناني عاد من البرازيل جانبَها الغربيّ، وتكتسح اليرزة بطبقاتها الاجتماعيّة الراقية حقولَ زيتونها الغنيّة، ولا أعود أعرف أين أقيم. وحين قال لي سائق التاكسي الذي أقلّني ذات عشيّة: إذا كنت ذاهبة إلى بعبدا لا إلى الحازميّة زادت التسعيرة ألفي ليرة، فكّرت في أن أبيع بلدتي بألفين من الليرات، لولا أنّه تابع وقال لي: ضيعان هالضيعة أكلها العمار.
لو عاد الذين ماتوا منذ سنين لما اهتدوا إلى القرية الصغيرة التي كانت مصيفًا لأهل الحدث وارتفع فيها في العامين الأخيرين عشرون بناء من الحجم الهائل لن يعرف المقيمون فيها من الخليجيّين الأثرياء والمغتربين العابرين أيّ شيء عن تاريخها. إم عزيز المنتصبة القامة رغم أعوامها التسعين تمشي ويداها على خاصرتيها، الستّ شفيقة تبلّل كفّيها بالمياه وتربّت على أطراف شتلات الحبق الكبيرة لتنمو مستديرة كأنّها مرسومة رسمًا، العمّ إسكندر يتأبّط ذراع زوجته الستّ هيلين ويعودان معًا مريضًا ليرفّها عنه بأخبارهما الطريفة الذكيّة، الستّ نيني ممرّضة القرية تنقل وصفاتها عن زوجها الذي كان يعمل في الطبيّة ويسمع أحاديث الأطبّاء ويتعلّم منها، العمّ جريس بشرواله العربيّ وزوجته الستّ رشيدة يجلسان أمام بيتهما الذي اختفى ويستعدّان لاستقبال زائري العصر لشرب القهوة، إم كلود التي أتت من الشمال وصارت ابنة الحيّ، العمّ طانيوس الذي حضن السنديانة مودّعًا باكيًّا حين هاجر وهو يناهز الثمانين من عمره إلى أوستراليا حيث أولاده، وغيرهم وغيرهم من الوجوه التي لم تعرف غير الابتسامات تتحدّى بها الفقر لا العوز، وتستقبل بها الضيوف بلا خبث أو رياء، وتروي الأرض حنانًا ودفئًا.
اليوم، غارت عين الريحانيّة تحت هدير الحفر والبناء، وباع الأحفاد البيوت القديمة لتجّار الإعمار، وصارت أشجار الزيتون والتين والعنّاب وقودًا في مدفأة الذاكرة. كلّ ذلك لأنّ الريحانيّة ليس فيها مكان للموتى، ليس فيها مدافن. فأهل الريحانيّة الذين يعتبرون أنفسهم أبناء بعبدا لم ينقلوا مدافنهم الخاصّة إلى جانب الكنيسة التي بنوها منذ خمسين سنة، كأنّهم أرادوا أن يبقوا على انتمائهم إلى البلدة الكبيرة خصوصاً عند الغياب وفي مناسبات الحزن حين يحتاج الإنسان إلى من يحتضن خوفه أمام العبور والفناء. ولأن لا مدافن عندنا زالت هالة القدسيّة عن أرضنا التي لم تجد من يحمي تربتها وأشجارها وذكرياتها، فالموتى مدفونون بعيداً، وليس غير الموتى من يقدر على المواجهة لأنّهم لا يخافون.
هذا الصيف ستمتلئ الأبنية التي شيدت حديثًا بالغرباء الذين لا يعرفون أين يقيمون: هل هم في بعبدا أم الحازميّة أم برازيليا أم الفياضيّة، ولن يبقى من الريحانيّة إلاّ بضع كلمات تحاول أن تصف عطرًا يفوح من شجرة الريحان الوحيدة الباقية أمام بيتنا، ووجوهًا تبتسم للكاميرا في ألبومات عتيقة منسية في زوايا الخزانات، وعقد خرز أزرق تتباهى به مراهقة اكتشفته بين أغراض عتيقة لجدّتها ولم يجرؤ أحد على إخبارها بأنّه كان لـ"عيّوقة" البقرة التي غذّت أهل الحيّ بحليبها الصافي وحين ماتت بكاها الجميع كأنّها فرد من العائلة.
النهار - الثلاثاء 11 أيّار 2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق