الخميس، 12 ديسمبر 2019

أنطون سمعان داود: سيّد الصمت البليغ




عمّو "أنطون داود"، أبو كلود، انضمّ يوم أمس إلى قافلة من الراحلين جعلت الريحانيّة بلدة تستحقّ أن تُحبّ وتُفتقد. واليوم احتضنته تربة بلدته بيت داود -عكّار، إلى جانب زوجة جميلة سبقته بأعوام كثيرة.
عن عمّو "أنطون" يمكن أن يقال الكثير، وإن كنت أجد نفسي متردّدة في اختيار ما يختصر شخصيّة هذا الرجل.
هو من الآباء الذين قد يقول لهم أولادهم في لحظة عتب: وشو طلعلنا من المنيح والآدميّة والعيب والحرام والما بيجوز. وهم بذلك يشيرون إلى نمط حياة يجمع بين قدسيّة رهبانيّة أصيلة ونظام عسكريّ منضبط دقيق.
هو من المستأجرين القدامى الذين حين واتته ظروف الحياة ترك البيت لأصحابه بلا طلب منهم أو مقابل وبلا أدنى تردّد منه أو مِنّة.
هو من الجيران الذين يغضّون الطرْف حين يعبرون أمام بيت مفتوحة أبوابه، حتى صار مضرب المثل بأدبه وحسن خلقه.
هو من الرجال الذي يحبّون العِلم ويطلبونه، ولكن لا ليستعرض معلوماته أو يتباهى بما صار يعرفه، بل ليصقل شخصيّته ويغذّي فكره.
الحياء صفته، والصمت شيمته، والابتسامة رفيقته، والقناعة كنزه الذي أغناه وأشبعه.
***
كنّا في مطلع الحياة حين بدأنا القيام بالواجبات الاجتماعيّة، فنزور الجيران في الأعياد والمناسبات. وكنت مع شقيقتيّ ضيفات مكرّمات عند إم كلود وزوجها. ولم تكن الأعوام التي تفصل بين نضجهما ومراهقتنا تعيق الأحاديث أو تعرقل تبادل المعلومات، بل أنّنا لم نشعر للحظة واحدة أنّنا صغيرات جاهلات في حضرة الزوجين الذين يربّيان عائلة كبيرة مؤلّفة من ستة أولاد. وكانا، كلّما تقدّم بنا نضج المعرفة، يفرحان ويتباهيان كأنّنا من أولادهما. وكنّا نزهو بذلك ونفتخر. وما زلنا.
حين رحلت إم كلود، كتبت (2011): لم تكن "إم كلود" مجرّد جارة أتت من الشمال مع زوجها لتقيم في الريحانيّة بصورة مؤقّتة ثمّ ترحل، كانت إلى لحظة وفاتها المفاجئة واحدة من أهل البلدة، استطاعت بجمالها الهادئ وابتسامتها الدائمة وتهذيبها الفائق أن تدخل في النسيج الاجتماعيّ بلطف، من دون أن تفرض وجودها عنوة أو تتطفّل على حياة الآخرين أو تقحم نفسها في ما لا دخل لها به. وبدا واضحًا للجميع أنّ زوجها "أنطون" لا يختلف عنها في شيء من ذلك، ما جعل أولادهما بعد ذلك يحذون حذو الوالدين."
واليوم، وأنا أشارك في مأتم عمّو "أنطون"، في الريحانية التي غادرها منذ أعوام حين أعاد البيت المستأجَر لأصحابه، تساءلت عن معنى الانتماء وفي بالي أنّ هذه العائلة لم تتنكّر لحياتها فيها. ففي حين يبحث كثر من أبناء البلدة عن كنيسة فخمة وضخمة لأعراسهم ومآتمهم، أجد في عائلة داود وفاء لافتًا لبلدة صارت جزءًا من حياتهم ولو أبعدتهم الحياة بالسفر والزواج، وصاروا جزءًا من تاريخها الجميل، بعدما تشوّه حاضرها كما كلّ شي في هذا البلد.
عمّو "أنطون" سلّم على "إم كلود"، وقل لها إنّ الريحانيّة حيث أنتما وكثيرون من أهلنا وجيراننا ستبقى جميلة في البال والقلب، بدروب التراب وجلول الزيتون والتين والكنيسة الصغيرة والأبواب المفتوحة لمن كان مثلكما بالمحبّة والكرم وعزّة النفس، ولا تنسَ أن تقول لوالدك "أبو يوسف": إنّ رنّة ضحكته لا تزال بنقاء صوت الجرس في كنيستنا التي في الوجدان.

ليست هناك تعليقات: