الخميس، 2 أغسطس 2018

طانيوس عبده (القصّيفي) وفاء لماض وذكرى حضور - حنينه ضاهر 1985


حنينة ضاهر


طانيوس عبده (القصّيفي) وفاء لماض وذكرى حضور
سَحَرَ الشحرور "فلثغ" المنبر لثغته الجميلة
حنينه ضاهر – صحيفة الأنوار – الثلاثاء 9 تمّوز 1985

     في الذكرى الحادية عشرة لغيابه هل نتذكّره؟ طانيوس عبده (القصّيفي) الظاهرة التي لن تتكرّر. النموذج الفريد في الشعر. عفوه نطلب: عفو الشاعريّة الوهّاجة والكلمة المخمل والصياغة الحرير والصوت الكناريّ.
     هذه الجمالات مجتمعة التي كانت طانيوس عبده نستميحها عذرًا إذا أجبرنا على نسيانها أو تناسيها في مهرجان ذكرى أو حفلة تكريم في خضمّ صراعنا المستمرّ منذ السنوات الإحدى عشرة التي ابتدأت بعد غيابه بقليل ولم تنته بعد، ولم ينتهِ صراعنا في البحث عن الهدوء والأمن الذي في ظلاله فقط يُستطاع الصفاء والتركيز لاستخراج الذكريات الحميمة من أقفاص الصدور وتحويلها إنجازات عرفان ووفاء لمن أذابوا حياتهم شموعًا على دروب انطلاقتنا الفكريّة والشعريّة، ومهّدوا لنا الطيق إلى الكأس والمنبر والكتاب.
    طانيوس عبده (القصّيفي) واحد منهم. ولعلّه في الطليعة. طانيوس عبده (القصّيفي) لم يكن ينظم شعرًا ذا وزن وقافية فقط. كان ييجمع بعض الموسيقى والعطر والفرح إلى ما يغزله شعوره من حرير وحبّ وأشياء وجمالات كثيرة. ثمّ يفلش هذه الأشياء على الورق في تنسيق غاية في الذوق فتأتي قصائد ولا أرروع!!
    لكنّ هذه الجمالات قد تكون أقلّ سحرًا وعذوبة وهي على الورق ممّا لو أنشدها طانيوس عبده (القصّيفي) بصوته الجميل ولثغته المحبّبة. فعندئذ تكون النشوة الكاملة والسكر حتّى التلاشي.
    لم يكن طانيوس عبده (القصّيفي) يملم موهبة شعريّة أكثر من غيره من شعراء الزجل، ولكنّه كان متفرّدًا بنوعيّة الموهبة ومستلزماتها من خفّة روح وسرعة خاطر، وحضور بديهة، إلى إلقاء جميل وشكل محبّب.
كان يكفي أن يمسك الدفّ لينشد حتّى تدوّي القاعة بعاصفة هوجاء من الضحك قبل أن يفتح شفتيه: طانيوس سيغنّي: وهذا كاف للفرح والبهجة.
     يقال إنّه من السها جدًّا على الشاعر أو الممثّل إسالة الدموع. ولكنّ إضحاك الناس هو الأصعب وطانيوس كان موهوبًا باستخراج الضحك من أعماق الصدور: ليس الضحك التهريجيّ الرخيص، بل الضحك الصادر من الأعماق/ ضحك الفرح الذي يسيطر على الشعور ويغمر الإحساس.
    وكان موهوبًا حتّى في شكله الخرجيّ الجذّاب: بقامته المتوسّطة وسمرته الخفيفة وحيائه غير المصطنع. والأهمّ تلك اللثغة الحلوة التي تجعل حرف الراء حرف غين، والتي كان يعرف كيف يبرزها ويركّز عليها لمعرفته بفعاليّتها في المستمعين.
جوقة وحفلة
    في أوائل الخمسينات أحيت جوقة شحرور الوادي التي كان طانيوس أحد أعضائها حفلة زجليّة في "مبنى شركة كهرباء بيروت" على طريق النهر لصالح شركة الكهرباء وكانت ردّة الموشّح في آخر الحفلة:
من عينك لو تعطيها / للشركة نور
كانت بتضوي فيها/ كلّ المعمور
    وكانت ردّة طانيوس عبده التي يبرز فيها مدى استغلاله للثغته بحرف الراء وتركيزه عليها:
حيّرتي كلّ أموري / بقدّ مكسّم
وع قلبي حاجي تجوري/ عطرك نسّم
البركان الـ تحت الجوري / لولا تبسّم
بتغلبط أكبر خوري / بالبورخ مور
    هذه الراءات المتعدّدة في الردّة الواحدة أطلقها طانيوس من شفتيه قذيفة من الضحك أشعلت القاعة بالفرح الغامر لفترة طويلة أجبرته على إعادتها أكثر من مرّة!
    ولكن، هل كان لطانيوس عبده (القصّيفي) نصيب من ذلك الفرح والسعادة اللذين كان يعطيهما للناس؟ كان في حياته الخاصّة إنسانًا إنطوائيًّا بعض الشيء، خجولًا، بخاصّة وهو لم يكن يملك من مقوّمات الحياة ما يجعله في طمأنينة إلى غده ومستقبل حياته إلّا قناعته واكتفاؤه الذاتيّ ونفسه الكبيرة!
***
    ولد طانيوس عبده القصّيفي في حدث بيروت سنة 1903، والده هو الشاعر عبده القصّيفي، ولكنّ طانيوس اشتهر باسم والده عبده فقط. ربّما كان ذلك نسبة لرابطة الشعر بينهما. بدأ في نظم الشعر وهو في الثامنة عشرة. قصّته هي قصّة أكثر الشعراء في عصره، ولكنّ طانيوس كان لطبيعته الخجول أثر بالغ على شاعريّته، كان لا يركن ولا يطمئنّ في اطلاقته الشاعريّة إلّا وهو في أحضان الطبيعة، وهو يهيم في منتزهات بعبدا بين وادي خطّار والقرقوف (حيّيان لناحية شمال بعبدا)، متنقّلًا بين المروج والغابات مستوحيًا موسيقى النعيم العليل والطبيعة الشاعرة. ولكنّه ما أن يلمح خيال إنسان حتّى يصمت ويتصبّب عرقًا خوفًا من أن يكون سمعه.
    وظلّ هكذا فترة حتّى تمكّن بعض أصدقائه الخلّص من "تدجين" موهبته، وبعث الثقة في نفسه بالتشجيخ المستمرّ، فأصبح يحضر بعض الجلسات الشعريّة القليلة التي كان الأصدقاء خلالها يضيّقون الخناق عليه باستفزازهم وتحدّيهم حتّى ينطلق ببعض الأبيات!
    في هذه الأثناء تعرّف إلى شحرور الوادي فبدأت نقطة التحوّل في حياته.
    قصّة تعارفه بالشحرور كما رواها لنا بنفسه في إحدى الجلسات، قال:
   "كانت جوقة شحرور الوادي تحيي حفلة زجليّة في بعبدا سنة 1929، وكنّا جالسين حول طاولة، إبن عمّي وأنا. وكنت أتحمّس للردّات الجيّدة التي ينشدها الشعراء. ممّا لفت نظر الشحرور فسأل السيّد فريد لحّود الذي كان جالسًا قريبًا من المنبر: من هو هذا الشاب فقال له اسمي، ثمّ أضاف: وصوته جميل ويغنّي بعض الردّات. فطلب منّي أن أصعد إلى المنبر فمنعني الخجل من ذلك. ولكنّ اثنين من المتحمّسين حملاني إلى المنبر مع الكرسيّ. وحاولت أن اهرب فلم أتمكّن، وشعرت بما يشبه الدوخة، وأنّ حرارتي ارتفعت إلى الأربعين!
    وعندما ناولني الشحرور الدفّ أخذته منه وأنا كالمسحور من شدّة الخوف فوضعت الدفّ على الطاولة وأنشدت لا أدري ماذا وما استفقت إلّا على تصفيق الحاضرين وإعادة ما أنشد:
ساحة علي لمّا دخلت وفِتّها / معنى القوافي ضلوع صدري فتّها
بحرين مدّ وجزر عم يتلاطموا / وروحي البريّه احترت وين بزتّها
   وكانت هذه الردّة الحدّ الفاصل بين الهواية والاحتراف، وبعد انتهاء الحفلة انتميت فورًا إلى الجوقة."
  يبدأ تاريخ طانيوس عبده (القصّيفي) فعليًّا منذ انتمائه إلى جوقة شحرور الوادي. تحرّرت شاعريّته من عوامل الخجل والانطواء فتفجّرت موهبته كالينبوع الصافي العذب. نظم في جميع الموضوعات، ولكنّ شعر الغزل احتلّ المساحة الأكبر من نتاجه. وكان لغزله طعم خاصّ ونكهة مميّزة. كلمة الغزل على شفتيه كانت تحمل ما يضجّ في صدور الأطفال من شقاوة بريئة وشوق طاهر، وشوق مهذّب ومتمرّد في الوقت ذاته:

مش عالأرض خالقنا خلقها / جبلها بالسما وصبّا ومشقها
وقلّا انزلي وع الأرض روحي / وأبواب السما خلفا غلقا
وقلّا انزلي وع الأرض روحي / وبسرّ الجمال للناس بوحي
وصارت عند ما تمشي: يا روحي / يخجل قدّها رمح الرديني
                   شتلة بان شي مفرّخ ورقها

     رافق طانيوس عبده جوقة شحرور الوادي منذ العام 1929 تاريخ انتمائه إليها حتّى توقّفها عن العمل في أوائل الستّينات بدون انقطاع. وكان له ولرفاقه في الجوقة: علي الحاج، أنيس الفغالي، وإميل رزق الله الفضل الكبير بتثبيت دعائم المرسح الزجليّ وارتقائه إلى مستوى رفيع من احترام الجمهور الزجليّ ونخبة المثقّفين والأدباء الذين ارتبط عدد كبير منهم بأعضاء الجوقة برباط وثيق من الصداقة والاحترام المتبادل الذي كان يفرضه التماسك والمصداقيّة والأخلاق العالية التي كانوا يتمتّعون بها. ومن بين العمد الأربعة كان طانيوس عبده (القصّيفي) وجه الفرح والبراءة والطيبة المحبّب إلى كلّ القلوب.
    من بين مئات القصائد المتعدّدة المواضيع والأهداف التي نظمها طانيوس، تحضرني أجملها الآن لتزيدني قناعة وإصرارًا بأنّ في الشعر بعضًا من نبوءة. فمنذ ما يقارب الأربعين سنة قال طانيوس عبده (القصّيفي) هذه الأبيات:
دخلك سمعت الطير شو غنّى وشدا / تخمين عم يعزم رفاقو ع الغدا
سبحان الله شو قلوبن طيّبه / ما فيش ولا مرّه طير ع رفيقو اعتدى
ليش الطيور بالحبّ والطبع الهني / يعيشا سوا ما في فقير ولا غني
ونحنا منجي ومنروح ع وجه الدني / لا منهتدي ولا في حدا يرحم حدا
مش عيب منخلّي الطيور الطايرين / لا دارسين الفلسفة ولا معلّمين
يعيشوا سوا مع بعضهم متفاهمين / ونحنا اختلفنا تحت مشعال الهدى
    طانيوس عبده (القصّيفي) الذي غاب عنّا سنة 1974 في حياته كما في شعره، كذلك في رحيله كان مثال الوداعة والتواضع: تمامًا كزهرة البنفسج بلا ضجيج عاش وبصمت مطبق رحل، لدرجة أنّ قلّة من أصدقائه القلائل تمكّنت من توديعه بما يليق، ونحن منهم، فهل ستتمكّن البقيّة الباقية من محبّي طانيوس عبده (القصّيفي) من إيفائه حقّ الحبّ والعرفان:
لسانك لسان ناسك على العالم كرز / وعينك شقيّه سهمها بصدري غرز
وشفافك الحلوين كلما تبسّموا / بيصير داير معمل مربّى الكرز