تولد رعيّة الريحانية اليوم من رحم ذاتها. تخرج إلى الحياة الجديدة بين هرج المشاريع ومرج المعترضين، تصرخ موجوعة من عبورها إلى بركة الحركة، بعدما كانت آمنة في حضن واد ساكن هادئ، لكنّها، ككلّ مولود جديد، تأخذ نفسًا وتقرّر المضيّ في الحياة. فهذا قدر أبنائها مذ انطلقوا في مغامرتهم الرعويّة بلا مال أو عقار، فأثبتوا أنّ إيمانهم صلب، وعزيمتهم لا تلين، وكنيستهم صخرة بكر، وصدرهم رحب.
وككلّ ولادة، لا يخلو الأمر من ألم الانعتاق، لكنْ، مصحوبًا برجاء الانطلاق في مغامرة الاكتشاف! ومن حنينٍ إلى طمأنينة التقوقع، لكنْ، مطعّمًا بتوق إلى دهشة الاختبار!
لهذا فلا يجتمع اليوم اثنان من أبناء البلدة إلّا وكان ثالثهما حديث الرعيّة والكنيسة - والخوري في طبيعة الحال-. وبين الاثنين، ثمّة واحد مهلّل للولادة، مستبشر بها، مهنّئ بسلامة الانطلاق، وواحد لا يوافقه الرأي ولا يشاركه الشعور، غير راضٍ عمّا يجري.
هي طبيعة الأمور حتمًا. لكن حين أنظر وأنا غير المعنيّة مباشرة بالمسألة لكوني من غير الملتزمات والملتزمين، إلى العذارى الخمس الحكيمات يباركن خطوات التجديد، ومشاريع التوسّع، أطمئنّ إلى مستقبل الرعيّة. فجنفياف وناديا وأولغا وليلي وسيمون، الساهرات منذ تفتّح وعيّ كلّ منهنّ على الكنيسة، لن يقبلن للرعيّة بأن تكون منقسمة بين التقليد والتجديد، ولا أن تصير مشرذمة بين ساكنيها الأوائل والجدد الوافدين إليها، ولا أن تضربها رياح التفتّت، فيتفرّق بناتها وأبناؤها.
العذارى الحكيمات يعرفن أنّ الحكمة ليست شعارًا، ولا عنوانًا، ولا مشروعًا واحدًا يتيمًا. بل هي العمل في صمت الخشوع، والشجاعة في قبول التغيير كما فعل الرسل الأوائل، والالتزام اليوميّ برسالة الكنيسة، بلا ادّعاء ولا مكاسب، والمحبّة التي تتّسع للجميع.
لذلك، حين لبّيت دعوة الرعيّة للاستماع إلى ريسيتال في مناسبة عيد الأمّ، شاهدت كيف تراقب العذارى الحكيمات الحاضرات الأولاد والشبّان الذين يغنّون، وكلّهم من غير أبناء البلدة الأصيلين، أي من غير عائلات الحلو وبو لحّود والقصّيفي. كان في حضورهنّ ما يعطي شرعيّة لهذا التزاوج المشروع والمطلوب والطبيعيّ بين فئات الناس، فلا تبقى الرعيّة حكرًا على طبقة، أو عائلة، أو شارع، أو بناية...
لم يكن أداء الأولاد محترفًا، ولم يدّعِ أحد أنّه سيكون كذلك. لكن من يعمل مع الأولاد الهواة، يعرف مقدار الفرح الذي يشيع في النفوس حين يغامر طفل بالعزف، أو حين تبادر طفلة إلى الترنيم. ففي وقوفهم أمام الناس، في تلك المناسبة المفعمة بالمشاعر، كان ثمّة كمّ هائل من الشجاعة والثقة والحبّ والفرح، وما المسيحيّة من دون كلّ ذلك؟
نعم، الولادة الثانية انطلقت، انطلقت في هذا الجوّ الموسيقيّ البريء والعفويّ، وأهل الريحانيّة الذين بنوا الكنيسة بسواعدهم وأموالهم القليلة، كانوا شاهدين على هذه الولادة، فرحين بها، يباركها الراحلون منهم من عليائهم، ويدعون الأحياء إلى التهليل لها والاحتفاء بها، إذ ليس كالأموات الراحلين من يعرف قيمة الحياة ووجوب تجدّدها!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق