من اليمين: طانيوس القصيفي، المرحوم يوسف القصيفي، ابراهيم غيّا، غسّان بو خليل، المرحوم جورج القصيفي (1970/ 1971) |
ليلة رأس السنة...خارج الريحانيّة
في تلك الأيّام لم تكن الريحانيّة معنيّة باحتفالات ليلة رأس السنة، فأهلها المزارعون الذين بالكاد يجدون خبزهم كفاف يومهم لم يكن في مقدورهم تحمّل كلفة السهر خارج بيوتهم، فضلًا عن أنّ هذا النوع من الاحتفالات كان ترفًا لا يُتاح لكلّ الناس. ومع ذلك، كان السهر في البيوت ينتهي بحفلة تكسير بعض الأواني الزجاجيّة في تقليد يهدف إلى التخلّص من الآثار السلبيّة للسنة المنصرمة. والإنسان يطمح دائمًا إلى سنوات سِمان أكثر خيرًا من تلك التي مضت، مهما كان الرزق فيها وفيرًا والصحّة جيّدة، فكيف إذا كان أهل الريحانيّة من المزارعين المحكومين بعطاء الأرض في وطن لا يولي الزراعة والمزارعين أدنى اهتمام.
ولكنّي لا أذكر أنّ الحرمان من بعض كماليّات الحياة جعلنا تعساء. كان ثمّة قناعة ما، لا أدري ما سرّها، توحي لنا بأنّ ما نحن فيه هو أفضل ما يمكن أن يكون عليه الناس. لذلك لا تبدو لي الآن هذه الذكريات سوى نبع حنين لا ينضب عن عالم أليف وحنون وسعيد بالرغم من كثير من المشكلات التي لا بدّ منها. فالريحانيّة في النهاية ليست سوى قرية فيها مختلف أصناف الناس، وتتصارع فيها مجموعة من الأفكار والمشاعر، لكنّ ما في أهلها من إباء وكبرياء جعلهم يتصرّفون على رغم الفقر والمشكلات التي تنتج عنه كأنّهم أكثر الناس اكتفاء لا بل أكثرهم غنى. كيف لا وهم يحبّون أمرين: الأرض والشعر.
والدي الذي أصغر إخوته اكتشف معنى السهر في بيروت، وفي مرحلة لاحقة اصطحب معه مجموعة من الشبّان منهم أولاد أخوته، وأترابهم من أبناء الجيران. كان هو كبيرهم ويملك سيّارة، ويعرف معنى السهر وقيمة كأس العرق مع اللقمة الطيّبة، فكيف لا يؤسّس لتقليد جديد خارج حدود القرية، والسهر ليلة رأس السنة في مطعم يوزّع عليهم الطرابيش الحمراء احتفاء بالمناسبة؟ لا أعرف كم دام هذا التقليد. الصور في ألبومات عائلتنا تظهر بوضوح أنّ تلك السهرات توالت لفترة ثمّ توقّفت. هي هموم الحياة على الأرجح، تلتها الحرب. بعض أفراد شلّة السهر غادروا المنطقة: سفرًا أو انتقالاً إلى مكان آخر بحكم الزواج، أو غيابًا لا يليق به اسم الموت.
هذه الصور الفوتوغرافيّة السوداء والبيضاء تربط الريحانيّة بليل بيروت. أمّا نحن الآخرين، الصغار والنساء وبعض العجزة، فلم نعرف العاصمة إلّا نهارًا، حين كان يتاح لنا أن نزور أسواقها في مناسبات متباعدة، وما زال الأحياء منّا يحتفظون بصور غائمة عن أسواق تضجّ بالحركة والناس، لكلّ سوق رائحة ومزاج وأصوات ومشاهد. ولها كلّها الآن شوقُ طفلة، كانت أنا، يمسك والداها بيديها ويرفعانها عن الأرض كي تعبر فوق المياه الجارية قنوات في سوق السمك، أو تفتح عينيها لترى كميّات الأقمشة الملوّنة الملفوفة على عيدان خشبيّة ثخينة، يحملها الباعة في سوق "أبو النصر" برشاقة و"يفلشونها" أمام النساء، أو تصغي إلى دعوات الترحيب يردّدها أصحاب المحلاّت الصغيرة المتجاورة وهم يجلسون على كراسيهم الواطئة أمام الأبواب في سوق "سرسق"، يلحّون على العابرين المسرعين للدخول والشراء. والطفلة الصغيرة كانت، لو استطاعت، لبّت الدعوات كلّها، لعلّها تكتشف الأسرار المختبئة في عتمة الدكاكين.
هناك تعليقان (2):
الريحانية وأهلها والقناعة التي مردها إلى محبة الأرض والشعر تشبه بلدتي .. هو نفس المحيط الذي يولد أرواح متشابهة. أعجبني انتباهك لسر قناعة القوم. الرحمة لموتى الريحانية والعافية والسرور لأحيائها، ولك دعائي ومحبتي
الإنسان واحد والأرض واحدة. لا فرق إلاّ في مقدار الشرّ الذي نتركه يستشري على حساب الشعر
لك الشكر والمودّة
إرسال تعليق