الأحد، 16 نوفمبر 2025

الريحانيّة رعيّة قيد التنفيذ

الخوري نبيل الحاج في زيّاح الشعانين

 
الشبيبة في سبت أليعازر (عهد الخوري (سابقًا) جهاد صليبا)... أكثرهم صار في المهجر


نشاط رعويّ في عهد الخوري جورج كميد


بنيت كنيسة مار الياس الريحانية عام 1960، وكنت مع ابنة عمي أوّل من تلقّى سرّ العماد على مذبحها. ولأن البلدة تعتبر تابعة لبعبدا، كان خادم رعيّة مار عبدا وفوقا هو القائم على شؤونها الرعويّة والروحيّة بحسب ما يسمح له الوقت. ومع ذلك عرفت الرعيّة ثلاثة عهود ذهبيّة، أعطيت فيها حقّها من الاهتمام والأنشطة.
في عهد الخوري الراحل نبيل الحاج، كانت الريحانيّة لا تزال ملأى بالناس، وخصوصًا من الفئة العمريّة الشابّة. وعلى الرغم من الحرب، ومشاغل الخوري نبيل، استطاعت الرعيّة أن تحقّق حياة اجتماعيّة لافتة جعلتها قدوة بين الرعايا المحيطة بها. ففي كلّ مناسبة مهرجان، ولكلّ عيد احتفال، ولكلّ عمر نشاط. ثمّ ترك الخوري نبيل الرعية وهاجر كثر من أبناء البلدة، وغرقت الكنيسة في سبات عميق إلى أن استلم شؤونها الخوري جهاد صليبا الذي لم يعد كاهنًا وعاد إلى حياته العلمانيّة. لكنّه أثناء خدمته الرعية جمع شبّانها وشاباتها الذين ما كانوا قد ولدوا زمن الخوري نبيل، وأطلق نهضة لافتة. ومع تركه الرعية ثمّ الكهنوت، عادت الرتابة إلى البلدة التي صارت تكتفي بقدّاس يوم الأحد، وهمدت الحركة في بلدة تدور حياتها حول الكنيسة وتتعلّق أنفاسها بحبل جرسها.
ومنذ أعوام استلم شؤون البلدة الخوري جورج كميد الذي رأى أنّ البلدة تستحقّ أن تستقلّ راعويًّا عن بعبدا، وأن يكون لها كاهن خاصّ بها. فحركة العمران استقطبت ساكنين جددًا وبالتالي تحوّل الحيّ الصغير المقتصر على أبنائه بلدة كبيرة ملأى بالناس، وما عاد كاهن بعبدا قادرًا وحده على خدمة رعيّتين. وبالفعل، استطاع هذا الكاهن أن يجدّد الحياة في الرعية وأن يستقطب سكّان الأبنيّة الحديثة، ما جعل عدد القداديس ثلاثة يوم الأحد، وواحدًا يوم السبت، وأقام مناولة أولى لأطفال مصابين بالتوحّد، وسوى ذلك من الأنشطة الروحيّة والاجتماعيّة والسهرات التي جعلت الريحانية تضجّ بالحياة. وفجأة ترك الخوري الرعية بعد خلاف مع مطران بيروت بولس عبد الساتر، وعادت رعيّة الريحانيّة إلى حضن رعيّة بعبدا.
اللافت في أمر الكهنة الثلاثة أنّ الأوّل كان سابقًا عصره لاهوتيًّا وفكريًّا، متحرّرًا بلا تفلّت من الروحانيّات، رؤيويًّا ترجم حياة البابا يوحنّا بولس الثاني قبل أن يخطر لأحد أنّ هذا البابا سيكون قدّيسًا. وكانت أفكاره الثوريّة موضع خلاف مع المطران اغناطيوس زيادة. والخوري (سابقًا) جهاد صليبا كان، كما أشيع وقتذاك، على خلاف مع المطران بولس مطر ما جعله يترك الكهنوت. وتكرّر الأمر مع الخوري كميد الذي أصرّ على "تظهير" حدود رعيّة مار الياس نزولًا رغبة أهلها لتحافظ على كيانها، فوقع الخلاف مع المطران بولس عبد الساتر.
من المهمّ أن أشير هنا إلى أنّ أهل الريحانيّة لا يمكنهم أن ينفصلوا عن بعبدا لكون مدافنهم فيها، لكنّ مطلبهم كان ولا يزال أن تُعطى كنيستهم اهتمامًا يحافظ على التزامهم بها، ويبقي الحركة ناشطة فيها. لكنّ مطران بيروت يقول إنّ الرعايا كثيرة وعدد الكهنة قليل وهو مجبر على دمج الرعايا الصغيرة بالرعايا الأكبر. وفاته أن يذكر أنّ أربعة عشر كاهنًا تركوا الكهنوت أو اعتصموا في بيوتهم بسبب خلافات معه.
مرّة جديدة تخسر الريحانيّة معركتها، وتذوب بسبب هجرة أبنائها واجتياح العمران الحديث الراقي حقولها وبساتينها، والهجوم غير المسبوق لشراء الشقق الباهظة الثمن فيها حتى أنّ أهلها صاروا هم الغرباء عنها. وضاع اسمها بين من يقول أنّه يقيم في اليرزة لرفع شأن مسكنه، أو من يقول أنّ شقّته في برازيليا (بسبب بيت السفير البرازيلي)، أو من يظنّ أنّ المتاجر التي أنشئت فيها هي في الفياضيّة أو الحازميّة.
أمّا أهلها المقيمون والذين لا يتجاوز عددهم الخمسين فموزّعون بين مريض وعجوز وطفل، أمّا الصبايا والشبّان (عددهم سبعة) فينتظرون تأشيرة هجرة بعدما غرقت الكنيسة (المرتبطة بالأعراس والعمادات واحتفالات القربانة الأولى والمآتم) في سكينة الانطفاء.
ولكن ما غاب عن بال الجميع إنّ أكثر الوافدين على البلدة المتنازع عليها من غير المسيحيّين، وأن كثرًا منهم بات ينزعج من بثّ القداديس عبر مكبّرات الصوت، وهو أمر يطالب به كبار السن والمرضى العاجزون عن المشاركة في الاحتفالات الدينيّة.

الريحانيّة تخسر مستشفى سان شارل

 

مستشفى سان شارل المشرف على بيوت الريحانيّة


     لم يخطر لي من قبل أن أبحث عن تاريخ مستشفى سان شارل. فهذا المبنى رافق محطّات مصيريّة ومفصليّة في حياتنا نحن أهل الريحانية حتى بدا كأنّه امتداد طبيعيّ لبيوتنا. ولا يبحث المرء عن تاريخ بيته إلّا متى حدث ما يدعوه إلى ذلك. وقد حدث ما يدعوني إلى التنقيب في تاريخ المستشفى وفي الذاكرة.
     بنت الرهبنة الألمانيّة المسمّاة على اسم القدّيس شارل المستشفى في عين المريسة عام 1908، وفي العام 1963، انتقل المستشفى إلى الريحانيّة، وفي 1980 انتقل إلى راهبات القلبين الأقدسين، وفي آب 2022 صار تابعًا لمستشفى أوتيل ديو ولجامعة القديس يوسف.
     بالنسبة إلينا كان مستشفانا. وكفى.
    كان المريض منّا حين يمرّ على قسم المحاسبة قبل أن يغادر، يقول له مسؤول المحاسبة: يا عمي ع شو مستعجل؟ المستشفى إلكن إنتو أهل الريحانية، هلأ عاجقة عليي، الحمد لله ع السلامة وتبقى مرق ادفع بعدين.
     كنّا نعرف الفريق الطبيّ والتمريضيّ والإداريّ، وكانوا كلّهم يعرفوننا بالاسم لا بالمرض ولا برقم الغرفة.
     اليوم خسرنا كلّ هذا، وصار المستشفى مكانًا غريبًا، نقصده برهبة ونغادره متحسّرين على زمن الراهبات الألمانيّات اللواتي، وإن باعدت بيننا اللغة، عرفن كيف يكسبن القلوب بلغة المحبّة.
    أهل الريحانيّة اليوم لا يتجاوز عددهم الخمسين مقيمًا، بعدما جذبت الغربة بناتها وأبناءها فتوزّعوا بين أستراليا وكندا وفرنسا وبريطانيا ودول الخليج، تاركين خلفهم العجزة والمرضى وأولاد خمسة.
***
     في العاشرة من عمري خضعت لعمليّة جراحيّة كانت تستدعي بقائي في المستشفى شهرًا كاملًا، غير أن الدكتور رامز عوّاد، جرّاح العظم، قال لوالدي: عندك عائلة وستكون الكلفة باهظة. بيتكم على طريقي، ستغادر ابنتكم بعد أسبوع، وسأمرّ عليكم كلّ يوم صباحًا لأقوم بعمليّة تطويل الساق، وأجرتي كوب من العصير.
    وهكذا سائر أطباء تلك المرحلة. الدكتور الجرّاح شاهين بو سليمان، لا يزال، بالرغم من تقدّمه في السنّ، كلّما مرّ مع سائقه من أمام بيتنا، يتوقّف ويسأل عن كلّ منّا بالاسم.
    وبعدهما وسواهما، استلم المهمّة الإنسانيّة الدكتور ميشال فغالي الذي يزور مرضاه صباحًا ومساء، ويردّ على الاتّصالات الهاتفيّة، ويتابع حالاتهم في بيوتهم.
     كان أصدقاؤنا يستغربون إصرارنا على الاستشفاء في سان شارل حتّى بعد رحيل الراهبات الألمانيات. وكان جوابنا دائمًا: "نعرف الجميع وهم يعرفوننا. نشعر بالأمان فيه". حتّى عندما استحدثت الإدارة الجديدة مواقف للسيّارات ذات تعرفة باهظة، بقي الموظفون يتساهلون إن ركنّا السيّارة لدقائق مردّدين العبارة نفسها: يا جماعة المستشفى إلكن وإنتو قبلنا هون.
     اليوم أخذوا منّا مركز أماننا إن مرضنا. كأن لا يكفي الريحانيّة ما أصابها من هجرة واجتياح الباطون وهجوم سماسرة الأرض حتى اكتمل مشهد الخراب بتحوّل المستشفى مكانًا تسكنه البرودة وتتنزّه في أروقته شرطة الوقت، ويلاحقنا المحاسب كأنّنا سنحمل كيس المصل ونهرب.
***
     من حقّ الإدارة الجديدة أن تحوّل مستشفى سان شارل مركزًا جامعيًّا حديثًا وأن تعمل بعقليّة رجال الأعمال، ومن حقّنا أن نتذكّر ونحزن لأنّ الحياة في الريحانيّة لم تعد كما كانت عليه... وكذلك المرض ومواجهة خطر الموت. لقد خسرنا مستشفانا الآمن حيث غادرت أرواح أقربائنا وأنسبائنا أجسادها وهي محاطة بالرعاية والمحبة.
***
     فلنعترف بأنّ الخمسين الباقين من أهل الريحانيّة ليسوا زبائن "ربّيحين" من حيث العدد على الرغم من كونهم جميعًا يحملون بطاقات التأمين الصحّي يبرزونها في وجه الإدارة كي تطمئن.
      التجديد من طبيعة الحياة الاستشفائيّة وواجب علميّ على شرط ألّا يكون قلب المجدّدين من حديد.

الأربعاء، 23 يوليو 2025

الريحانية تودّع ابنها ابراهيم غيّا وأنا أودّع صورة الريحانيّة

 

ابراهيم بين طانيوس القصّيفي إلى يساره وخلفه والده جريس غيّا
شعانين 1982



ليل أمس، انضمّ ابراهيم غيّا (مواليد القبيّات)، رفيق والدي على المسافة بين عمريهما، الى الراحلين من أبناء الريحانيّة وسكّانها. وصار، مثلهم، مقيمًا في ذاكرتي، ومتجوّلًا حين تنزل العتمة، على دروب بلدة تعود معهم الى ما كانت عليه في زمنهم الطيّب.
رحل ابراهيم بعدما أقام طويلًا في سجن جسده، ضحيّة جلطات دماغيّة أنسته من يكون ولم تنسنا تاريخه المرح معنا. تحرّرت روحه وحلّقت إلى حيث يراقب من فوق زوجته يولا ووحيدته ليال وعائلتها.
صحيح أنّ الرجل مات بعد سنوات من المرض، لكنّه قبل ذلك عرف كيف يعيش ويفرح ويسهر ويشاكس ويمزح ويهتمّ ويشارك في مناسبات عائليّة واجتماعيّة. لقّب نفسه ب "أبو حطب" إذ كان مصرًّا على أنّه من يوقد النار في جهنم ولم يعرف أنّ آلامه على هذه الأرض ستؤهله فضلا عن قلبه الحنون وخدماته الكثيرة ليكون من أهل السماء.
حياة ابراهيم لا موته هي التي تفرض نفسها على كلماتي عنه. أفتح علبة الحلويات المعدنيّة العتيقة وقد صارت مسكنًا ل "سكّان الصور" بحسب عنوان رواية لمحمد أبي سمرا. اراقب الفرح الطاغي على الوجوه، أدعو للراحلين بالرحمة وللأحياء بطول العمر. أفكّر كيف كانت الحياة هانئة لطبقة متوسّطة الحال، استطاع أبناؤها أن يقطفوا من الحياة متعًا بسيطة وسهرات مبهجة أمام موائد عامرة بما لذّ وطاب من المازات والمشروبات.
نعم، كان ذلك متاحًا قبل ١٩٧٥ وبعدها بقليل.
نعم، كان ذلك ممكنًا لأكثر اللبنانيّين وفي أرقى المطاعم والملاهي الليليّة، قبل أن تهاجمهم الحرب وتحرم الناس من نسمات فرح تنعش أرواحهم.
***
عزيزتي يولّا،
أنت مثال الزوجة الوفية المتفانية. ذاب جسدك مع ذوبان جسد زوجك، وتألّمت بصمت هو من طبيعتك أمام صمت زوجك المفروض عليه.
عزيزتي ليال،
أنت مثال الابنة البارّة بوالديها. لم تتوانَي عن تقديم كلّ ما يلزم لتأمين الطبابة والعناية لوالدك. تذكّري أنّ والدك عرف قيمة الحياة فعاشها وكانت تليق به.
عزيزتي جمال،
أنت مثال الشقيقة المصلّية الراضية القانعة. تحمّلت رحيل أخوتك (بالجلطات الدماغيّة) وزوجك (بالكورونا) برضا المؤمنات الصابرات بعدما حملت معهم صلبان آلامهم ومعاناة عائلاتهم.
عزيزي ابراهيم،
لم أرك منذ آخر مأتم شاركتَ فيه (صرنا في لبنان نلتقي في المآتم) لكنّي الآن سأراك كلّ ليلة تتجوّل ناعمًا بسكينة النفس في ليل الريحانيّة، ترافق كلّ من عاش فيها ورحل عنها. الريحانية ملككم أنتم. أنتم الذين صنعتم هويّتها وتاريخها، وجعلتموها تفوح كالريحان بعطر المحبة والريحان والرضا والقناعة.
***
اتصل والدي اليوم بغسّان بو خليل ليخبره برحيل ابراهيم. قال له: ماتوا كلّهم ولم يبقَ سوانا. (أطال الله بعمريهما). كان والدي يملك سيّارة ويحبّ السهر وكأس العرق. فيقول لشباب البلدة: السيّارة عليي والعشا عليكن. وهكذا امتلأت حياتهم بالفرح وامتلأت علبة الحلوى بالصور وامتلأت ذاكرتي بمشاهد من لبنان بطبقته الوسطى المسموح لها بالتمتّع بحياة الليل. رحل أكثر "سكّان الصور"، وصرت أنا حارسة مرورهم في حياة الريحانيّة.
وها والدي ينعي ابراهيم، وأنا أرنو الى الصور وأندب الريحانية ولبنان.


من اليمين طانيوس يوسف القصّيفي، يوسف بشارة القصّيفي،
جريس عزيز القصّيفي، غسان بو خليل، ابراهيم غيّا

ليلة رأس السنة ١٩٧٠-١٩٧١

سهرة رأس السنة في بيروت 1970- 1971

شعانين 1979 مع مي سليم مشلب



من اليمين ابراهيم غيّا، جريس القصّيفي، غسّان بو خليل، طانيوس القصّيفي

في مطعم مانويلّا جونيه 27 أيّار 1977


1977 طانيوس القصّيفي، طانيوس الغاوي، ابراهيم غيّا،
غسّان بو خليل، عبدة القصّيفي، جميل القصّيفي

عبدو القصيفي، طانيوس القصّيفي، ابراهيم غيّا، غسّان بو خليل

من اليمين طانيوس القصّيفي، أسعد بو خليل، يوسف القصّيفي
ابراهيم غيّا، جريس القصّيفي، عبدو القصّيفي

من اليمين جميل القصّيفي، سليم مشلب، طانيوس القصّيفي، ابراهيم غيّا، عبدو القصّيفي

من اليمين ميشال سعد القصّيفي، غسّان ساسين بو خليل، طانيوس يوسف القصّيفي
ابراهيم جريس غيّا، عبدو عزيز القصّيفي 

ابراهيم جريس غيّا وفرنسوا كميل بو لحّود 

من اليمين ابراهيم وفهيم وإميل وجمال غيّا في منزل طانيوس القصّيفي

في باحة كنيسة مار الياس الريحانيّة، أحد الشعانين ١٥ نيسان ١٩٨٤


الأحد، 21 نوفمبر 2021

في وداع أنطوان اسكندر بو لحّود

 


كنت قرّرت منذ بعض الوقت أن أتوقّف عن الكتابة عن الراحلين من أهل بلدتي الريحانيّة. بدا الموت اللبنانيّ المحيط بنا، مرضًا وقتلًا وانتحارًا، حاضرًا في يوميّاتنا، ما جعلني أفترض أنّ الامتناع عن الكتابة عمّن يرحل قد يحمي البلدة من الزوال، أو لعلّني أقنعت نفسي أنّ تأريخ الموت تأكيد على وجوده وطغيانه. فلأتجاهله... فضلًا عن أنّ الكتابة عن أحدهم كانت ترضي البعض من عائلته وتغضب البعض الآخر... فكثر يريدون من النصّ الأدبيّ أن يشبه عظة كاهن يردد الكلمات نفسها في كلّ مأتم، ولا يرى في الراحلين سوى هباتهم للكنيسة.
رحلت برناديت بو لحود، وسعاد أبو جوده القصّيفي (إم الياس)، وإميل غيّا، ... ولم أكتب... لكنّي في مأتم أنطوان بو لحّود انتبهت إلى أنّني لا أكتب في الواقع عن أشخاص بقدر ما أكتب عن مرحلة من تاريخ البلدة، وبالتالي الوطن. أكتب عن رعيل من النساء والرجال هم في الحقيقة وجه لبنان في مرحلته الانتقالية من كونه وليد المجتمعات الزراعيّة المتعلّقة بالأرض إلى مرحلة التعليم الجامعيّ والهجرة.
هؤلاء الذين كتبت وأكتب عنهم، هم ذاكرتي وسكّان البلدة التي أحببتها، والتي ودّعتها في أكثر من نصّ لأنّها كانت تختفي مع رحيل كلّ من ساهم في تكوين شخصيتها وتحديد هويّتها.
لبلدتي في الوجدان والبال أجيال ثلاثة أعرفها: جيل أجدادي وجيرانهم وينضمّ إليهم جيل والديّ ومن في عمرهم، جيل ثان يكبرني بقليل، وجيل ثالث غادر البلدة، إلّا أفراد لا يزيد عددهم عن أصابع اليد الواحدة.
تربطني صلة قويّة بالجيلين الأوّلين. لقد كنت على حداثة عمري، وبسبب واقع صحيّ هو شلل الأطفال محاطة بهؤلاء الكبار من الجيلين الأوّلين، يعودونني ويجالسون أهلي فأصغي إلى أحاديثهم وذكرياتهم وحكايات البلدة وناسها. ولعلّ تلك الجلسات، فضلًا عن المطالعة هي التي كوّنت شخصيّتي الكتابيّة، وغذّت مخيّلتي وجعلتني أغادر السرير والغرفة والبيت لأجول في تاريخ البلدة ودروبها الترابيّة وحقولها.
الجيل الجديد لا يعرف هذه "الريحانيّة"، ولن يفهم السبب الذي من أجله أكتب عن هؤلاء الغائبين المقيمين. ليس الأمر واجبًا أخلاقيًّا أو اجتماعيًّا، وليس قطعًا مسايرة لأهل فقيد أو أبناء فقيدة. هي رغبتي في استعادة هؤلاء الذين ما عرفوا غير الحب والاحترام والقيم. هو التوق كي أعود طفلتهم المدللة، وابنتهم الموهوبة، والشابّة التي عاملوها كأنّها أكبر من عمرها، كأنّها من جيلهم.
لم يكونوا هكذا معي دون سواي... هم هكذا، يحترمون الكبير والصغير، يقدّرون العِلم ويحثّون أولادهم عليه، يحفظون الجيرة والعهود، كرماء لا يتأخّرون عن مساعدة، ظرفاء يحبّون السهر والزجل، تدور حياتهم حول كنيسة مار الياس، وفي الأعياد يتنقّلون من بيت إلى بيت بفرح كأنّهم لم يروا بعضهم منذ زمن...
وأنطوان بو لحّود لم يشذّ عن هذه القاعدة، حتّى حين اختار شريكة حياته تقصّد أن تكون شبيهة هذه البلدة التي أحبّها حتّى الموت، وكان يتمنّى لو دفن في ترابها. لكن من سوء حظ هذه البلدة التي جعلت الكنيسة محور الاهتمام وقبلة الصلاة أنّها لم تحظ بعناية المطرانيّة التي تحدّد الرعايا بمقدار ريع صينية الأحد لا بمقياس العلاقات التي تربط بين أهلها.
لا، لا يعرف الجيل الجديد هذه "الريحانيّة". فهم إمّا مهاجرون لا تعنيهم شؤونها، أو مغادرون يقيمون خارج حدودها، فلا يزورونها، إن فعلوا، إلّا في المآتم. وما أنا بالنسبة إلى أكثرهم سوى كاتبة غريبة الأطوار، لا يقفون لها احترامًا حين تصل، ولا يلتفتون إليها حين تعبر، ولا يقرأون كتبها أو مقالاتها، ولا يوجّهون لها التحيّة، ويدّعون أنّهم لا يعرفونها حين يلتقون بها في مكان عامّ... يجيدون لغات كثيرة ولا يعرفون كيف يلقون التحية على من يكبرهم سنًّا.
أنطوان بو لحّود كان عكس كلّ ذلك... كان سليل جيلين من "الخواجات" ولو كانوا فلّاحين وعسكريّين وموظّفين متواضعين، من "الأوادم" الذين لم تغرهم مكاسب سريعة، من اللطفاء مهما علا شأنهم، من المتواضعين مهما كثرت علاقاتهم الاجتماعيّة، من المنتمين إلى الريحانيّة ولو اكتسحها الباطون واحتلّها الغرباء بأموالهم وثرواتهم.
لذلك كانت الريحانيّة التي أعرفها حاضرة في مأتمه ولو لم يرها سواي. كانوا جميعهم حول نعشه: الأحياء والموتى من عائلات القصّيفي وبو لحّود والحلو وغيّا ومشلب وحرب والجرجس وبو خليل ومتى وكرم وداود وباسيل وصوما ويونس وابراهيم وديب وكسرواني ونقّور وفرحات ومغاريقي... كلّ واحد منهم عاد إلى حيث كان يجلس، وشارك في الصلاة. وحين انتهت المراسم، غادر أنطوان مع العائدين إلى الريحانية الأجمل، وعدنا نحن، آخر الريحانيّين الأحياء إلى بيوت تركها الشبّان والصبايا في رحلة البحث عن الأمن والأمان، تاركين خلفهم حرّاس الذاكرة ينتظرون موعد الرحيل.
هو أول يوم أحد اليوم بلا أنطوان بو لحّود الذي ورث عن والده اسكندر صوتًا جميلًا وضعه في خدمة القداديس وأورثه لابنه ألكسندر الذي أطرب والده في نعشه حين رنّم له دامعًا ورتّل من أجله حزينًا. وسيأتي عيد الميلاد ولن يزورنا "الخواجه طوني"، كما تناديه أمّي، مع زوجته ليقدّما التهنئة بالعيد احترامًا منهما لوالديّ العجوزين، وحرصًا على تقليد بدأ يندثر برحيل أمثاله.
هو أوّل يوم أحد بلا الرجل الذي عرف يتم الأمّ مع شقيقه وشقيقته، لكنّهم أكرموا زوجة أبيهم "تانت هيلين" التي ربّتهم كأولادها، ما دفع بالخواجه طوني إلى تسمية ابنتيه على اسمَي والدته "إيفون" وخالته زوجة أبيه.
هو أوّل يوم أحد بلا واحد من أواخر أعمدة الجيل الثاني الذي لن تبقى الريحانية كما هي بعده، الريحانيّة التي لا مدافن فيها، فتوزّع موتاها على الجوار، ولا كنيسة جامعة تعطيها حقّها من الاهتمام... لعلّني أخلط بين الريحانية ولبنان... ربّما الحال واحد.
خواجه طوني... سلّم على صديقك خالي ميلاد. وعلى كل أهل الريحانية.

الأربعاء، 21 أكتوبر 2020

عن موت عمّي بشارة آخر مزارعي الريحانيّة



في ١٧/ ١٠ / ٢٠١٧ ماتت فتاة ستينية اسمها مرسيل بشارة القصيفي بين ذراعي والدها التسعينيّ، وحين وصلتُ مع أولى الواصلين ورأيت كيف يحضنها متمسّكًا بها رافضًا أن نأخذها منه، عرفت أنّه مات معها، ولكن دفنه تأخّر إلى ٢٢/ ١٠/ ٢٠٢٠. انتظر ثلاثة أعوام، تائهًا، ضائعًا، شارد الذهن، باحثًا عنها على الطرقات، هائمًا على وجهه، وحين تعبت قدماه وصار طريح الفراش في الغرفة التي شهدت وفاة ابنته، قال في سرّه، وقد رفض الكلام والطعام: بات عليهم أن يدفنوني، انتظرتها ثلاثة أعوام ولم تعد، فلأذهب إليها في شهر رحيلها، لألتقي بها وبأمّها جولييت وشقيقها يوسف.

في هدأة هذا الليل، رحل عمّي بشارة. في ليلة خريفيّة احترقت فيها قبضة الثورة، في زمن الكورونا حيث صار المأتم عمليّة دفن سريعة لا وقت فيها لدمعة، في عهد رئاسة عجوز، وبلد عاجز، رحل رجل أمضى عمره في العمل والقيام بواجبات التعازي. وها البلد اليوم لا أعمال فيه، وها هي التعازي عن بعد تفرض نفسها ولا تكافئ هذا الراحل على قيامه بالواجب.
مأساة الإنسان ليست الموت، بل المعاناة قبل الموت والانحشار في مدفن. لماذا لا نُدفن في التراب لتُزرع فوقنا شجرة أو زهرة أو نبتة؟ لماذا لا يصير فلان شجرة زيتون وغيره شجرة حور، وفلانة نبتة حبق، وغيرها وردة أو ياسمينة... لماذا لا يتركوننا نتحوّل ترابًا يتنفّس، ويعطي حياة ويزهر ويثمر ويسهر تحت النجوم ويتغطّى بالعشب الأخضر؟ حين كان عمي يفقد أحدًا من عائلته كان يهرب باكيًا إلى حقول أمضى عمره في نكش ترابها، وري مزروعاتها وقطاف زيتونها. وحين كان يعود من غيابه الذهنيّ، في خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، ما كان يسأل إلّا عن موسم الزيتون. وفي موسم الزيتون اليابس مات.
أكتب الآن عن عمّي الذي أدين لذاكرته وأخباره بجزء كبير من تفاصيل أودعتها كتبي، لأكرّم حياته لا لأرثيه. لأنحني أمام حزنه لا لأبكي عليه، لأتأمّل في تعبه مذ كان يافعًا يتيم الأب لا لأقول كما يقول كثيرون: لقد ارتاح.
قد يرى كثر أنّ الكتابة عن رجل كاد يقترب من عمر لبنان الكبير عمل سخيف في زمن الموت العشوائيّ، قتلًا ومرضًا وقهرًا. لكن إن لم يبق فينا ذرّة عاطفة تجاه موت شخص واحد، بمعزل عن عمره وإنجازاته، فموت الإنسانيّة كلّها لن يعنينا، وحرائق الطبيعة لن تبكينا، وتلوّث الأنهار لن يحرّك مشاعرنا. يقول الناس لم يعد للموت قيمة، ولا للحياة... وأقول نحن من نعطي قيمة لمن وما حولنا. نحن الذين قرّرنا ألّا قيمة إلّا لمالنا في المصرف، ولأملاكنا فنتنازع ملكيّتها، ولشهرة اسمنا في المجتمع فنضحّي بالكرامة من أجلها. أعطينا العمل قيمة وتنكّرنا للعامل، أعطينا المائدة العامرة قيمة وأهملنا المُزارع، أعطينا حيث لا يجب وبخلنا بالعطاء حيث يجب. وعمّي بشارة كان فلّاحًا عاملًا نشيطًا، واظب على حضور القدّاس، اختبر الفقد والموت ورحيل الأحبّاء، سار في مآتم كثيرة، وشارك في الأفراح. عاش ومات منذ ثلاثة أعوام ومنذ قليل دخل إلى برّاد المستشفى، جلدًا يستر عظامًا، في انتظار أن يجاور بعد ساعات من سبقه من أفراد العائلة كبارًا وصغارًا. ولن يصير شجرة أو نبتة أو زهرة.
عمّي بشارة لم يكن شقيق والدي فحسب، بل صديقه، وحين كان يسأل عن الزيتون في لحظات وعيه، كان يسأل كذلك عن والدي. وكان والدي يخترع له قصصًا عن المواسم والقطاف وعدد تنكات الزيت، وكان الخير يفيض من القصص وتمتلئ الخوابي ويبتسم عمّي، ولو انّ الفصل ليس فصل قطاف الزيتون. هي أعجوبة المحبة بين شقيقين عجوزين، ومعجزة الكلمات.
أمّا الريحانيّة التي أودّعها رحيلًا تلو آخر، فلن ترى بعد اليوم عمّي بشارة عائدًا من الحقول، لأنّ من كان يعرفه عهدذاك غادرها أو هاجر أو مات. والغرباء الذين أتوا وحوّلوها مدينة بلا هويّة أو حياة فلن يتذكّروا طويلًا العجوز الحزين الباحث عن بلدته التي ضيّع معالمها، فيستهدي بالكنيسة التي بناها بيديه حجرًا حجرًا (ولم يقرع جرسها حزنًا عليه)، فبقيت منارته ووجهته في لحظات التيه.
انطوت صفحة من كتاب الريحانية التي ربطوها رغمًا عنها بسجن ومراكز أمنية، واقتربت نهاية القصّة، فكيف تقاوم الموتَ بلدة مات فيها المزارع الأخير، واقتلعت الأشجارَ من أمام البيوت العتيقة كنّاتٌ غريبات يجدن الأوراق اليابسة نفايات تسمّم حيواتهنّ.
عمّي بشارة، لن أبكيك ميتًا، بل أبكي على تعبك وأحزانك وخيباتك وميتاتك الكثيرة. إنّ موتك الأخير هذا استراحة بين موسمَي عطاء، وغيابك حضور دائم بين أسطري، فثمة الكثير ممّا رويته لي لا يزال ينتظر كي يخرج إلى الحياة... وعندها لن تبقى ميتًا.
سلّم على إم يوسف ويوسف ومرسيل وصهرك أسعد...
#الريحانيّة #في_وداع_ريحانيّة_الجبل







بشارة القصّيفي وزوجته جولييت الأسمر القصّيفي

في موسم الزيتون بشارة القصّيفي وجولييت الأسمر القصّيفي وفهيم جريس غيّا