الأحد، 16 نوفمبر 2025

الريحانيّة رعيّة قيد التنفيذ

الخوري نبيل الحاج في زيّاح الشعانين

 
الشبيبة في سبت أليعازر (عهد الخوري (سابقًا) جهاد صليبا)... أكثرهم صار في المهجر


نشاط رعويّ في عهد الخوري جورج كميد


بنيت كنيسة مار الياس الريحانية عام 1960، وكنت مع ابنة عمي أوّل من تلقّى سرّ العماد على مذبحها. ولأن البلدة تعتبر تابعة لبعبدا، كان خادم رعيّة مار عبدا وفوقا هو القائم على شؤونها الرعويّة والروحيّة بحسب ما يسمح له الوقت. ومع ذلك عرفت الرعيّة ثلاثة عهود ذهبيّة، أعطيت فيها حقّها من الاهتمام والأنشطة.
في عهد الخوري الراحل نبيل الحاج، كانت الريحانيّة لا تزال ملأى بالناس، وخصوصًا من الفئة العمريّة الشابّة. وعلى الرغم من الحرب، ومشاغل الخوري نبيل، استطاعت الرعيّة أن تحقّق حياة اجتماعيّة لافتة جعلتها قدوة بين الرعايا المحيطة بها. ففي كلّ مناسبة مهرجان، ولكلّ عيد احتفال، ولكلّ عمر نشاط. ثمّ ترك الخوري نبيل الرعية وهاجر كثر من أبناء البلدة، وغرقت الكنيسة في سبات عميق إلى أن استلم شؤونها الخوري جهاد صليبا الذي لم يعد كاهنًا وعاد إلى حياته العلمانيّة. لكنّه أثناء خدمته الرعية جمع شبّانها وشاباتها الذين ما كانوا قد ولدوا زمن الخوري نبيل، وأطلق نهضة لافتة. ومع تركه الرعية ثمّ الكهنوت، عادت الرتابة إلى البلدة التي صارت تكتفي بقدّاس يوم الأحد، وهمدت الحركة في بلدة تدور حياتها حول الكنيسة وتتعلّق أنفاسها بحبل جرسها.
ومنذ أعوام استلم شؤون البلدة الخوري جورج كميد الذي رأى أنّ البلدة تستحقّ أن تستقلّ راعويًّا عن بعبدا، وأن يكون لها كاهن خاصّ بها. فحركة العمران استقطبت ساكنين جددًا وبالتالي تحوّل الحيّ الصغير المقتصر على أبنائه بلدة كبيرة ملأى بالناس، وما عاد كاهن بعبدا قادرًا وحده على خدمة رعيّتين. وبالفعل، استطاع هذا الكاهن أن يجدّد الحياة في الرعية وأن يستقطب سكّان الأبنيّة الحديثة، ما جعل عدد القداديس ثلاثة يوم الأحد، وواحدًا يوم السبت، وأقام مناولة أولى لأطفال مصابين بالتوحّد، وسوى ذلك من الأنشطة الروحيّة والاجتماعيّة والسهرات التي جعلت الريحانية تضجّ بالحياة. وفجأة ترك الخوري الرعية بعد خلاف مع مطران بيروت بولس عبد الساتر، وعادت رعيّة الريحانيّة إلى حضن رعيّة بعبدا.
اللافت في أمر الكهنة الثلاثة أنّ الأوّل كان سابقًا عصره لاهوتيًّا وفكريًّا، متحرّرًا بلا تفلّت من الروحانيّات، رؤيويًّا ترجم حياة البابا يوحنّا بولس الثاني قبل أن يخطر لأحد أنّ هذا البابا سيكون قدّيسًا. وكانت أفكاره الثوريّة موضع خلاف مع المطران اغناطيوس زيادة. والخوري (سابقًا) جهاد صليبا كان، كما أشيع وقتذاك، على خلاف مع المطران بولس مطر ما جعله يترك الكهنوت. وتكرّر الأمر مع الخوري كميد الذي أصرّ على "تظهير" حدود رعيّة مار الياس نزولًا رغبة أهلها لتحافظ على كيانها، فوقع الخلاف مع المطران بولس عبد الساتر.
من المهمّ أن أشير هنا إلى أنّ أهل الريحانيّة لا يمكنهم أن ينفصلوا عن بعبدا لكون مدافنهم فيها، لكنّ مطلبهم كان ولا يزال أن تُعطى كنيستهم اهتمامًا يحافظ على التزامهم بها، ويبقي الحركة ناشطة فيها. لكنّ مطران بيروت يقول إنّ الرعايا كثيرة وعدد الكهنة قليل وهو مجبر على دمج الرعايا الصغيرة بالرعايا الأكبر. وفاته أن يذكر أنّ أربعة عشر كاهنًا تركوا الكهنوت أو اعتصموا في بيوتهم بسبب خلافات معه.
مرّة جديدة تخسر الريحانيّة معركتها، وتذوب بسبب هجرة أبنائها واجتياح العمران الحديث الراقي حقولها وبساتينها، والهجوم غير المسبوق لشراء الشقق الباهظة الثمن فيها حتى أنّ أهلها صاروا هم الغرباء عنها. وضاع اسمها بين من يقول أنّه يقيم في اليرزة لرفع شأن مسكنه، أو من يقول أنّ شقّته في برازيليا (بسبب بيت السفير البرازيلي)، أو من يظنّ أنّ المتاجر التي أنشئت فيها هي في الفياضيّة أو الحازميّة.
أمّا أهلها المقيمون والذين لا يتجاوز عددهم الخمسين فموزّعون بين مريض وعجوز وطفل، أمّا الصبايا والشبّان (عددهم سبعة) فينتظرون تأشيرة هجرة بعدما غرقت الكنيسة (المرتبطة بالأعراس والعمادات واحتفالات القربانة الأولى والمآتم) في سكينة الانطفاء.
ولكن ما غاب عن بال الجميع إنّ أكثر الوافدين على البلدة المتنازع عليها من غير المسيحيّين، وأن كثرًا منهم بات ينزعج من بثّ القداديس عبر مكبّرات الصوت، وهو أمر يطالب به كبار السن والمرضى العاجزون عن المشاركة في الاحتفالات الدينيّة.

الريحانيّة تخسر مستشفى سان شارل

 

مستشفى سان شارل المشرف على بيوت الريحانيّة


     لم يخطر لي من قبل أن أبحث عن تاريخ مستشفى سان شارل. فهذا المبنى رافق محطّات مصيريّة ومفصليّة في حياتنا نحن أهل الريحانية حتى بدا كأنّه امتداد طبيعيّ لبيوتنا. ولا يبحث المرء عن تاريخ بيته إلّا متى حدث ما يدعوه إلى ذلك. وقد حدث ما يدعوني إلى التنقيب في تاريخ المستشفى وفي الذاكرة.
     بنت الرهبنة الألمانيّة المسمّاة على اسم القدّيس شارل المستشفى في عين المريسة عام 1908، وفي العام 1963، انتقل المستشفى إلى الريحانيّة، وفي 1980 انتقل إلى راهبات القلبين الأقدسين، وفي آب 2022 صار تابعًا لمستشفى أوتيل ديو ولجامعة القديس يوسف.
     بالنسبة إلينا كان مستشفانا. وكفى.
    كان المريض منّا حين يمرّ على قسم المحاسبة قبل أن يغادر، يقول له مسؤول المحاسبة: يا عمي ع شو مستعجل؟ المستشفى إلكن إنتو أهل الريحانية، هلأ عاجقة عليي، الحمد لله ع السلامة وتبقى مرق ادفع بعدين.
     كنّا نعرف الفريق الطبيّ والتمريضيّ والإداريّ، وكانوا كلّهم يعرفوننا بالاسم لا بالمرض ولا برقم الغرفة.
     اليوم خسرنا كلّ هذا، وصار المستشفى مكانًا غريبًا، نقصده برهبة ونغادره متحسّرين على زمن الراهبات الألمانيّات اللواتي، وإن باعدت بيننا اللغة، عرفن كيف يكسبن القلوب بلغة المحبّة.
    أهل الريحانيّة اليوم لا يتجاوز عددهم الخمسين مقيمًا، بعدما جذبت الغربة بناتها وأبناءها فتوزّعوا بين أستراليا وكندا وفرنسا وبريطانيا ودول الخليج، تاركين خلفهم العجزة والمرضى وأولاد خمسة.
***
     في العاشرة من عمري خضعت لعمليّة جراحيّة كانت تستدعي بقائي في المستشفى شهرًا كاملًا، غير أن الدكتور رامز عوّاد، جرّاح العظم، قال لوالدي: عندك عائلة وستكون الكلفة باهظة. بيتكم على طريقي، ستغادر ابنتكم بعد أسبوع، وسأمرّ عليكم كلّ يوم صباحًا لأقوم بعمليّة تطويل الساق، وأجرتي كوب من العصير.
    وهكذا سائر أطباء تلك المرحلة. الدكتور الجرّاح شاهين بو سليمان، لا يزال، بالرغم من تقدّمه في السنّ، كلّما مرّ مع سائقه من أمام بيتنا، يتوقّف ويسأل عن كلّ منّا بالاسم.
    وبعدهما وسواهما، استلم المهمّة الإنسانيّة الدكتور ميشال فغالي الذي يزور مرضاه صباحًا ومساء، ويردّ على الاتّصالات الهاتفيّة، ويتابع حالاتهم في بيوتهم.
     كان أصدقاؤنا يستغربون إصرارنا على الاستشفاء في سان شارل حتّى بعد رحيل الراهبات الألمانيات. وكان جوابنا دائمًا: "نعرف الجميع وهم يعرفوننا. نشعر بالأمان فيه". حتّى عندما استحدثت الإدارة الجديدة مواقف للسيّارات ذات تعرفة باهظة، بقي الموظفون يتساهلون إن ركنّا السيّارة لدقائق مردّدين العبارة نفسها: يا جماعة المستشفى إلكن وإنتو قبلنا هون.
     اليوم أخذوا منّا مركز أماننا إن مرضنا. كأن لا يكفي الريحانيّة ما أصابها من هجرة واجتياح الباطون وهجوم سماسرة الأرض حتى اكتمل مشهد الخراب بتحوّل المستشفى مكانًا تسكنه البرودة وتتنزّه في أروقته شرطة الوقت، ويلاحقنا المحاسب كأنّنا سنحمل كيس المصل ونهرب.
***
     من حقّ الإدارة الجديدة أن تحوّل مستشفى سان شارل مركزًا جامعيًّا حديثًا وأن تعمل بعقليّة رجال الأعمال، ومن حقّنا أن نتذكّر ونحزن لأنّ الحياة في الريحانيّة لم تعد كما كانت عليه... وكذلك المرض ومواجهة خطر الموت. لقد خسرنا مستشفانا الآمن حيث غادرت أرواح أقربائنا وأنسبائنا أجسادها وهي محاطة بالرعاية والمحبة.
***
     فلنعترف بأنّ الخمسين الباقين من أهل الريحانيّة ليسوا زبائن "ربّيحين" من حيث العدد على الرغم من كونهم جميعًا يحملون بطاقات التأمين الصحّي يبرزونها في وجه الإدارة كي تطمئن.
      التجديد من طبيعة الحياة الاستشفائيّة وواجب علميّ على شرط ألّا يكون قلب المجدّدين من حديد.

الأربعاء، 23 يوليو 2025

الريحانية تودّع ابنها ابراهيم غيّا وأنا أودّع صورة الريحانيّة

 

ابراهيم بين طانيوس القصّيفي إلى يساره وخلفه والده جريس غيّا
شعانين 1982



ليل أمس، انضمّ ابراهيم غيّا (مواليد القبيّات)، رفيق والدي على المسافة بين عمريهما، الى الراحلين من أبناء الريحانيّة وسكّانها. وصار، مثلهم، مقيمًا في ذاكرتي، ومتجوّلًا حين تنزل العتمة، على دروب بلدة تعود معهم الى ما كانت عليه في زمنهم الطيّب.
رحل ابراهيم بعدما أقام طويلًا في سجن جسده، ضحيّة جلطات دماغيّة أنسته من يكون ولم تنسنا تاريخه المرح معنا. تحرّرت روحه وحلّقت إلى حيث يراقب من فوق زوجته يولا ووحيدته ليال وعائلتها.
صحيح أنّ الرجل مات بعد سنوات من المرض، لكنّه قبل ذلك عرف كيف يعيش ويفرح ويسهر ويشاكس ويمزح ويهتمّ ويشارك في مناسبات عائليّة واجتماعيّة. لقّب نفسه ب "أبو حطب" إذ كان مصرًّا على أنّه من يوقد النار في جهنم ولم يعرف أنّ آلامه على هذه الأرض ستؤهله فضلا عن قلبه الحنون وخدماته الكثيرة ليكون من أهل السماء.
حياة ابراهيم لا موته هي التي تفرض نفسها على كلماتي عنه. أفتح علبة الحلويات المعدنيّة العتيقة وقد صارت مسكنًا ل "سكّان الصور" بحسب عنوان رواية لمحمد أبي سمرا. اراقب الفرح الطاغي على الوجوه، أدعو للراحلين بالرحمة وللأحياء بطول العمر. أفكّر كيف كانت الحياة هانئة لطبقة متوسّطة الحال، استطاع أبناؤها أن يقطفوا من الحياة متعًا بسيطة وسهرات مبهجة أمام موائد عامرة بما لذّ وطاب من المازات والمشروبات.
نعم، كان ذلك متاحًا قبل ١٩٧٥ وبعدها بقليل.
نعم، كان ذلك ممكنًا لأكثر اللبنانيّين وفي أرقى المطاعم والملاهي الليليّة، قبل أن تهاجمهم الحرب وتحرم الناس من نسمات فرح تنعش أرواحهم.
***
عزيزتي يولّا،
أنت مثال الزوجة الوفية المتفانية. ذاب جسدك مع ذوبان جسد زوجك، وتألّمت بصمت هو من طبيعتك أمام صمت زوجك المفروض عليه.
عزيزتي ليال،
أنت مثال الابنة البارّة بوالديها. لم تتوانَي عن تقديم كلّ ما يلزم لتأمين الطبابة والعناية لوالدك. تذكّري أنّ والدك عرف قيمة الحياة فعاشها وكانت تليق به.
عزيزتي جمال،
أنت مثال الشقيقة المصلّية الراضية القانعة. تحمّلت رحيل أخوتك (بالجلطات الدماغيّة) وزوجك (بالكورونا) برضا المؤمنات الصابرات بعدما حملت معهم صلبان آلامهم ومعاناة عائلاتهم.
عزيزي ابراهيم،
لم أرك منذ آخر مأتم شاركتَ فيه (صرنا في لبنان نلتقي في المآتم) لكنّي الآن سأراك كلّ ليلة تتجوّل ناعمًا بسكينة النفس في ليل الريحانيّة، ترافق كلّ من عاش فيها ورحل عنها. الريحانية ملككم أنتم. أنتم الذين صنعتم هويّتها وتاريخها، وجعلتموها تفوح كالريحان بعطر المحبة والريحان والرضا والقناعة.
***
اتصل والدي اليوم بغسّان بو خليل ليخبره برحيل ابراهيم. قال له: ماتوا كلّهم ولم يبقَ سوانا. (أطال الله بعمريهما). كان والدي يملك سيّارة ويحبّ السهر وكأس العرق. فيقول لشباب البلدة: السيّارة عليي والعشا عليكن. وهكذا امتلأت حياتهم بالفرح وامتلأت علبة الحلوى بالصور وامتلأت ذاكرتي بمشاهد من لبنان بطبقته الوسطى المسموح لها بالتمتّع بحياة الليل. رحل أكثر "سكّان الصور"، وصرت أنا حارسة مرورهم في حياة الريحانيّة.
وها والدي ينعي ابراهيم، وأنا أرنو الى الصور وأندب الريحانية ولبنان.


من اليمين طانيوس يوسف القصّيفي، يوسف بشارة القصّيفي،
جريس عزيز القصّيفي، غسان بو خليل، ابراهيم غيّا

ليلة رأس السنة ١٩٧٠-١٩٧١

سهرة رأس السنة في بيروت 1970- 1971

شعانين 1979 مع مي سليم مشلب



من اليمين ابراهيم غيّا، جريس القصّيفي، غسّان بو خليل، طانيوس القصّيفي

في مطعم مانويلّا جونيه 27 أيّار 1977


1977 طانيوس القصّيفي، طانيوس الغاوي، ابراهيم غيّا،
غسّان بو خليل، عبدة القصّيفي، جميل القصّيفي

عبدو القصيفي، طانيوس القصّيفي، ابراهيم غيّا، غسّان بو خليل

من اليمين طانيوس القصّيفي، أسعد بو خليل، يوسف القصّيفي
ابراهيم غيّا، جريس القصّيفي، عبدو القصّيفي

من اليمين جميل القصّيفي، سليم مشلب، طانيوس القصّيفي، ابراهيم غيّا، عبدو القصّيفي

من اليمين ميشال سعد القصّيفي، غسّان ساسين بو خليل، طانيوس يوسف القصّيفي
ابراهيم جريس غيّا، عبدو عزيز القصّيفي 

ابراهيم جريس غيّا وفرنسوا كميل بو لحّود 

من اليمين ابراهيم وفهيم وإميل وجمال غيّا في منزل طانيوس القصّيفي

في باحة كنيسة مار الياس الريحانيّة، أحد الشعانين ١٥ نيسان ١٩٨٤